فصل: الميراث في القرآن الكريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الأسرة في الإسلام ممتدة:

198 - هذا لفظ استعرناه ممن يكتبون في علم الاجتماع في هذه الأيام، فهم يقسمون الأسرة إلى قسمين: قاصرة وممتدة، ويقصدون بالقاصرة الزوجين وأولادهما، ويقصدون بالممتدة ما يشمل ذوي القربى جميعًا من أصول وفروع، وحواشٍ قريبة وبعيدة؛ بحيث يشكل الأقربين وغيرهم.
وقد جاء الإسلام منظمًا العلاقة بين النوعين، والقرآن في محكم آياته تعرض لأحكام الزوجين والأولاد، ولم يترك أحكام بقية ذوي القربى، وقد حثَّ بالنسبة لذوي القربى الذين يشملون الأسرة القاصرة أو الممتدة على مراعاة الرحم، وذكر الواجبات إجمالًا بالنسبة لصلة الأرحام، فأوجب مراعاة هذه الصلة التي أوجدتها الفطرة، ومهما تشعبت الفروع، وتكاثرت، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وجعل سبحانه وتعالى - من أقرب القربات إلى الله تعالى إعطاء ذوي القرابة بسبب القرابة فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
ونرى أنه سبحانه وتعالى - جعل من أوّل أبواب البر إعطاء ذوي القربى بسبب القرابة، لا لفقرهم، ولا لحاجتهم، ولكن صلة لهم، وإبقاء لحبل المودة في القربى أن يبقى.
والوصية بأولي القربى كثيرة في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [البقرة: 83]، وقوله تعالى في قسمة الميراث: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فالمودة في القربى أجر يعطيه العبد لربه، وهكذا نجد نصوص القرآن.
199 - وقد ذكر القرآن الكريم حقوقًا وواجبات متبادلة في القرابة، ونذكر منها ثلاثة:
أولها: إنَّ الدية في القتل الخطأ تجب على الأسرة، وتعطى الأسرة، فهي تجب على الأسرة بمعناها الممتد، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
وبهذا نجد وجوب التعاون بين الأسرة بمعناها الممتد، فهي تتعاون في غرم الجرائم تدفعه، وفي تعويضها تأخذه، ولذلك لا يجب إلَّا إذا كانت الأسرة مؤمنة، أو كان بينها وبين المسلمين ميثاق تجب بمقتضاه الديات، ولا تسقط إلَّا إذا كان من قوم عدو للمؤمنين، فإنَّ الدية تكون إعانة لهم على الاعتداء.
ثانيها: إنَّ الله أوجب للفقير العاجز عن الكسب نفقة على قريبه الغني، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61].
ونجد أن الله سبحانه وتعالى - ذكر في القرآن الحكيم أنه لا إثم على من يأكل في بيوت هؤلاء عند الاحتياج، ونفي الإثم يشير إلى أنه الحق؛ إذ إن تناول الحقوق لا إثم فيه.
وقد يقال: إن ذلك لم يكن مقتصرًا على القرابة، بل ذكر الصديق، فدل على أن الحق ليس سببه القرابة، ونقول: إنَّ ذلك الحق سببه العجز ابتداء، ولذلك ذكر في أول الآية ذوي العجز عن الكسب، فكان الكلام كله في أهل العجز، ولكن الأخذ كان للقرابة ابتداء، فإن لم تكن له قرابة يلزمها الشرع، كانت المودة التي توجبها الصداقة مبررًا للأكل، وإن كان لا يلزم الصديق بذلك قضاء، فإنه يجب عليه دينًا ويأثم فيما بينه وبين الله إن كان قادرًا، ومع ذلك يترك صديقه يتضور جوعًا، ولذلك كانت المؤاخاة.
وفي ذلك إرشاد خلقي اجتماعي حكيم لواجبات الأصدقاء نحو أصدقائهم.

.الميراث في القرآن الكريم:

الحق الثالث حق الميراث:
ولذلك بعض التفصيل، فقد ذكره القرآن مفصلًا.
الميراث:
200 - تولى القرآن الكريم ببيان الميراث بالتفصيل، ولم يكن في السنة النبوية تفصيل في القرآن، ولكن فيها تطبيق لأحكامه، وتوضيح لما عساه يتسغلق على بعض الأفهام، أو لما يحاول به بعض الناس من انحراف عن أحكام القرآن، وتأثر ببعض أحكام الجاهلية، كحرمان النساء من الميراث.
والان نتلو أكبر آية في بيان المواريث، وهي قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 11 - 14].
في هذه الآيات الكريمات بيِّن الله تعالى ميراث الأولاد والأبوين، والزوجين، وميراث أولاد الأم، فالكلالة هنا أولاد الأم، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقه لأحكام القرآن في الميراث.
وهناك كلالة أخرى، وهي كلالة الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب، وقد بيَّنَها الله سبحانه وتعالى - بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].
ولا ننسى قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فإنها كما تدل على المودة بين أولي القربى تدل على أولوية الميراث أيضًا، ولذا اقترن بها قوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
وبهذا نرى أنَّ القرآن الكريم تولَّى الأحكام في الملكية بالخلافة الإجبارية بعضه بالتفصيل وبعضه بالإجمال الذي يغني عن التفصيل.
وقد كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم تطبيق أحكام الكتاب، ولنضرب لذلك مثلًا، أنَّ عبد الله بن مسعود سئل عن بنتٍ وأمٍ وأخت شقيقة، فجعل الأخت الشقيقة قائمة مقام الأخ الشقيق تأخذ الباقي، وقال: ذلك قضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وطبَّق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فقرَّر صلى الله تعالى عليه وسلم أنه بعد أن يستوفي أصحاب الفروض فروضهم، ولم يكن أب أو ابن، أنَّ الميراث يكون لأقرب رجل ذكر، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فإن بقى بعد أصحاب الفروض، فلأقرب رجل ذكر». ولا شكَّ أنَّ ذلك الحديث النبوي تطبيق دقيق لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فالأولوية تقتضي أن يكون الأقرب أحقّ بالميراث، أو بما يبقى منه.
وقد ثبت بالسنة أنَّ المتوفَّى إذا ترك بنتًا وبنت ابن مات أبوها، فإنَّ البنت يكون لها النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين الذين يكونان للبنات، فإذا أخذت البنت الواحدة النصف، فإنه لا يذهب باقي الثلثين، بل يكون لبنت الابن؛ لأنها بنت للمتوفَّى مجازًا، وذلك تطبيق للنص القرآني.
وقد ثبت أيضًا أنه إذا كان للمتوفَّى أم وأخت شقيقة استحقت النصف فقط، وهناك أخت لأب، فإنها تأخذ السدس تكملة للثلثين، حتى لا يذهب ما فوق النصف، وذلك بتطبيق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}.
وبهذا يتبين أنَّ القرآن الكريم تولَّى أحكام الميراث بالتفصيل في أصحاب الفروض، والعصبة في الأولاد والآباء، وبالإجمال في باقي الأحكام، والسنة النبوية طبقت القرآن، وكانت بيانًا للناس.
ما يلاحظ على توزيع القرآن العادل:
201 - يلاحظ على ذلك التوزيع العادل الذي تولَّاه القرآن ما يأتي: أولًا: إنَّه جعل للنساء ميراثًا، ولم يكن العرب في الجاهلية يعطون النساء ميراثًا، وأنه في سبيل تكريم الأمومة وقرابتها جعل لأولاد الأمّ ميراثًا لا يقل عن السدس، ولا يزيد على الثلث، وجعلهم يستحقونه بوصف أنهم كلالة، أي: لا يوجد ميراث بأصول وفروع، ومع ذلك جعلهم يرثون مع وجود الأم.
ثانيًا: أن يكون الميراث للأقرب فالأقرب، لأنَّ العبرة في استحقاق الميراث أن يكون لمن يعد وجودهم امتدادًا لحياة المتوفَّى في الوجود، ولذلك كان أكبر الأسرة حظًّا في الميراث الأولاد، وأولادهم الذين ينتسبون إليه.
ومع أنهم أكثر الأسرة حظًّا في الميراث لا ينفردون به، بل يشاركهم فيه الأبوان والزوجان، وإنهم ليشاركونهم بمقدارٍ قد يصل إلى النصف أو إلى قريب منه.
وأنَّ مشاركة غيرهم إنما هي لمنع تركيز المال في ورثة بأعيانهم، فالأبوان إذ يأخذان مع الأولاد الثلث يكون من بعدهما لأولادهما، وهم غالبًا إخوة مع الأولاد إن كانوا إناثًا، وبذلك يتبين أنَّ كَوْن الميراث للأقرب لا يمكنه من الاستئثار بالتركة وحده.
والثالث: مما يلاحظ في الميراث مقدار الحاجة، فكلما كنت الحاجة أشد كان قدرت الميراث أكبر، ولعلّ ذلك هو السر في أن نصيب الأولاد كان أكبر من نصيب الأبوين، مع أنه من المقرر شرعًا أنَّ للأبوين في مال أولادهما نوع ملك، كما ورد في الحديث «أنت ومالك لأبيك»، ولكن حاجة الأولاد إلى المال أشد؛ لأنهم في غالب الأحوال ذرية ضعاف يستقبلون الحياة، ولها تكليفاتها المالية، والأبوان يستدبران الحياة، ولهم فضل من المال، فحاجتهما إلى المال ليست كحاجة الذرية الضعاف، وفوق ذلك أنَّ ما يرثانه يكون لأولادهما، ولا يكون منه لهذه الذرية الضعاف.
وإن ملاحظة الأكثر احتياجًا هي التي جعلت نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ وذلك لأنَّ التكليفات المالية على الذكور، وتكليفات الرجل المالية أكثر من تكليفات المرأة، فهو المطالب بنفقة المرأة نفسها، وهو المطالب بنفقة الأولاد وإصلاح حالهم، وهو الذي يمد الأسرة بكل حاجاتهم، وإن الفطرة الإنسانية هي التي جعلت المرأة قوامة على البيت، والرجل كادحًا عاملًا لتوفير القوت، فكانت قاعدة أنَّ العطاء في الميراث على قدر الحاجة موجبة لجعل حق الرجل أكبر من حق المرأة، فالأخ يحتاج إلى المال أكثر من أخته، وإن ملاحظة الحاجة هي العدل، والمساواة عند تفاوت الحاجة هي الظلم، فأولئك الذين يطالبون بمساواة المرأة في الميراث مع الرجل لا يطلبون المساواة العادلة.
والرابع: إنَّ الشارع الإسلامي كما لاحظنا في ميراث الأولاد اتجه إلى التوزيع بين الأقارب بدل التجميع، فهو لم يجعل وارثًا يستبد بالتركة كلها، لم يجعل الميراث للولد البكر دون غيره، ولم يجعل التركة كلها للأولاد دون الآباء، ولم يجعل يد المورث مطلقة يختص بتركته من يشاء، ويحرم من يشاء، بل جعل نظام الميراث إجباريًّا في ثلثي التركة، ووزّع الثلثين من التركة بين عدد من الورثة، والصورة التي يختص بالتركة فيها واحد فقط نادرة، وهي تكون حيث يقل الأقارب، وفي هذه الحال تكون ثمَّة وصية للأقارب غير الوارثين، على ما سنبين في الوصية إن شاء الله تعالى.
وإذا انتقل الميراث إلى الحواشي كالإخوة والأخوات، والأعمام، يوزَّع بينهم من غير أن يستبد بعضهم بالميراث كله، بل من غير أن تستبد قرابة دون قرابة، فإذا كان هناك أشقاء وإخوة لأمٍ كان الميراث للجميع، ويكون للإخوة الثلث.
وهكذا نجد الميراث في القرآن الكريم، وفي بيان السنة للقرآن وتطبيقه، نجد الميراث يتوزَّع ولا يتجمَّع، وإن التجمع في وارث واحد يكون فيه بلا ريب ظلم للباقين، ولا يكون المال دولة بين ناس من الأسرة، والآخرون محرومون محدودن، بل لا يكون المال في الأمة كلها دولة بين الأغنياء، والحرمان للباقين.
202 - إنَّ من المقررات الشرعية أنَّ الميراث يدخل ملكية الوارث في الثلثين جبرًا عنه، وبغير إرادة المورث، بل بإرادة الله سبحانه وتعالى، ويسمَّى التوريث الخلافة الإجبارية، وهي تكون في ثلثي التركة، ويقولون أيضًا: إنَّ الثلث يكون للوصية، وقد فرض القرآن الوصية، بل إنّ صيغته في التحريض كانت صيغة إيجاب، فقد قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 180 - 182].
وإنَّ هذا النص يستفاد منه جواز الوصية، بل وجوبها عندما تكون في موضع بر بأن تكون في الأقربين، فهي سدّ لما عساه يكون في توزيع الميراث من حرمان بعض ضعفاء الأقارب من الميراث، إذا لم يكونوا في نظام التوزيع، فهي في وضعها بجواز الميراث تكميل لأحكامه، فقد تكون الأخت الفقيرة لا يصل إليها الميراث لوجود الأبناء، فكانت الوصية التي كتبها الله تعالى في الثلث سدًّا لخلتها.
وإنه بمقتضى هذا النص تكون الوصية واجبة لفقراء الأقارب غير الوارثين، وذكر الوالدين لأنهما قد يكونان غير وارثين، لاختلاف الدين، كما كان الأمر في صدر الإسلام، إذ كان الرجل يكون مشركًا والمرأة كذلك، وولدهما قد هداه الله تعالى إلى الإسلام، فيكون عليه أن يوصي لهما؛ لأن ذلك من الإحسان، والمصاحبة لهما بمعروف، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ومن العلماء من قال: إن نصيب الأبوين من الميراث إن كان قليلًا تصح الزيادة عليه بالوصية، وكذلك الأقربون من الورثة، إن كان نصيب أحدهم ضئيلًا لا يسمن ولا يغني من جوع، جاز زيادته بالوصية من الثلث، وذلك ما تفيده الآية. وقوله تعالى: بالمعروف، معناه بالأمر المعقول، فلا يزيد القادر ذا المال على ماله، ولكن يعطي الضعيف ذا الحاجة الذي لم يأخذ شيئًا من الميراث.
ودلت الآية الكريمة على جواز التدخل في الوصية إذا كان فيها ظلم للورثة بالميل الظالم أو كان فيها إثم كالوصية لخليلة، أو الوصية لحانة، فإنه يجوز في هذه الحال الدخول للإصلاح وتحويل الوصية إلى خير، ولذلك قرر بعض الفقهاء أخذًا من هذا أن إبطال الوصية الظالمة أو إصلاحها بحكم القضاء جائز.
ومن التابعين من قرَّر أنَّ الميت إذا ترك الوصية لأقاربه الضعفاء غير الوارثين، كانت لهم وصية، وأوجبها ابن حزم، والله سبحانه وتعالى - يعلم المفسد من المصلح.
203 - هذا هو نظام الملكية بالخلافة، جعله القرآن إجباريًّا في الثلثين كما بينت السنة، وجعله اختياريًّا للوارث في الثلث، وأوجب أن يكون في غير إثم، وأنه يجب إبطاله إن كان إثمًا.
واختصَّ القرآن الكريم الأقارب الضعفاء الفقراء بإيجاب الوصية لهم بالمعروف، وقد وضحنا ذلك آنفًا.
وإذا وازنَّا نظام الملكية بالخلافة بأيِّ قانون من قوانين العالم في الماضي والحاضر، ما وصل إلى العدالة فيه نظام مهما يكن إحكامه.
ولقد تضافرت كلمة القانوينيين من علماء الغرب الذين اطلعوا على الشريعة أن أعدل نظام للملكية بالخلافة هو نظام الإسلام، فكل نظام للتوريث غير نظام الإسلام ظالم أو ناقص، وبذلك يعترف كل دارس منصف.
وإن هذا النظام جاء به القرآن الكريم، ونادى به صلى الله تعالى عليه وسلم الذي لم يدرس على معلّم، ولم يكن إلَّا في بلد أمي ليس فيه معهد ولا جامعة، أفليس هذا دليلًا قاطعًا على أنه من عند الله تعالى.
204 - وقد يقول قائل: إني أطلت في ذكر نظام الأسرة في القرآن، وربما يكون ذلك خروجًا عن الكلام في القرآن إلى الكلام في الأسرة.
ونقول في الجواب على ذلك: إننا نتكلم في علم الكتاب، فمهما نتكلم في الأسرة فإننا نتكلم في موضوع علم القرآن الذي علمنا الله تعالى إياه، وإننا لم نأت بكل ما جاء في القرآن عن الأسرة، ولكن اكتفينا ببعض ما جاء ليكون دليلًا على ما وراءه وإشارة لما بعده.
وقد ذكرنا الأسرة في القرآن، وتكاد كل أحكامها تكون ثابتة بالقرآن الكريم، والسنة مبينة لبعض ما يحتاج إلى بيان كلفظ القروء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. فالسنة هي التي بينت أن القروء هي الحيضات على أصحِّ الروايات في السنة.
ولقد قرَّرنا من قبل ما نتلمسه حكمة لتصدي القرآن لكل أحكام الأسرة.
ونقول الآن: إنَّ أحكام الأسرة في الإسلام كانت موضع تهجم من بعض الذين ليس للدين حريجة في صدورهم من الرجال والنساء، فأرادوا أن يجعلوا الأسرة الإسلامية خاضعة لما سموه تطورًا، وما تطورهم إلّا تجانف لناحية المسيحية، فالمسيحية في زعمهم تحرم تعدد الزوجات، والمسيحية في زعمهم تمنع الطلاق، فيجب أن تكون الأسرة في الإسلام تنمع التعدد، وتمنع الطلاق، وهكذا دفعهم التقليد، والإسلام يجعل للرجل قوامة على المرأة، وهم لا يريدون ذلك، ويريدون أن يكون البيت فوضى، وهكذا.
ولقد وصل بهم الإنكار لحقائق الإسلام أن تهجَّموا على نظام الميراث، ومنهم من يتمرَّد عليه اتباعًا لأهوائهم، ونحن نقول لهم: دعوا التقليد الأعمى، ودعوا التفكير الأعوج، واعلموا أنَّ الأمر في ذلك أمر القرآن، ومن علم غير القرآن فقد كفر، فإن تمردهم باسم التطوير، وهو عمى التقليد، فاعلموا أنكم على شفا جرف من الكفر، لأن من أنكر أحكام القرآن أو من خالفها جاحدًا فهو كافرًا، فكونوا كما تشاءون، فإن كنتم مؤمنين فخذوا بالقرآن، وإن كنتم غير ذلك (فلكم دينكم ولي دين).